سد النهضة الإثيوبي وأزمة مياه النيل

بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من المفاوضات المتعثرة والشد والجذب بين القاهرة وأديس أبابا، تستعد إثيوبيا لافتتاح سد النهضة الإثيوبي بشكل رسمي، رغم عدم التوصل إلى اتفاق نهائي وملزم مع دولتي المصب مصر والسودان.
قائمة المحتويات
هذا المشروع الذي تصفه أديس أبابا بأنه إنجاز قومي يهدف إلى توليد الطاقة الكهربائية، يُنظر إليه في القاهرة والخرطوم على أنه تهديد مباشر للأمن المائي، خاصة في ظل المخاوف من تقليص حصة مصر التاريخية من مياه النيل الأزرق، أهم روافد نهر النيل. فما هي أبعاد هذه الأزمة؟ وما السيناريوهات المتوقعة لمستقبل المنطقة بعد تشغيل السد؟
خلفية تاريخية لأزمة سد النهضة
بدأت قصة سد النهضة عام 2011 حين أعلنت إثيوبيا عن إطلاق المشروع في منطقة بني شنقول-قمز على النيل الأزرق، بالقرب من الحدود مع السودان. ومنذ اللحظة الأولى، أثار المشروع جدلاً واسعًا بسبب تأثيره المباشر على دولتي المصب.
مصر استندت إلى الاتفاقيات التاريخية، أبرزها اتفاقية 1929 واتفاقية 1959، التي ضمنت لها حصة ثابتة من مياه النيل تُقدر بـ 55.5 مليار متر مكعب سنويًا. أما السودان فكانت حصتها 18.5 مليار متر مكعب. لكن إثيوبيا لم تعترف بتلك الاتفاقيات، معتبرة أنها وُقعت في حقبة استعمارية ولم تكن طرفًا فيها.
الموقف الإثيوبي: مشروع تنموي لا يهدد أحدًا
تؤكد الحكومة الإثيوبية أن السد ليس موجهاً للإضرار بمصالح مصر أو السودان، بل هدفه الرئيسي هو توليد نحو 5600 ميغاواط من الكهرباء، لتغطية احتياجات أكثر من 65% من الإثيوبيين الذين يعيشون بلا كهرباء. كما تسعى إثيوبيا إلى تصدير الفائض إلى دول الجوار، ما يعزز اقتصادها.
لكن على أرض الواقع، لم يتمكن السد حتى الآن من الوصول إلى كامل طاقته الإنتاجية؛ إذ يعمل جزء من التوربينات فقط، حيث أنتج حتى الآن أقل من نصف الطاقة المخططة. وتبرر أديس أبابا ذلك بأن تشغيل التوربينات يتم تدريجيًا وفق الحاجة، وليس دفعة واحدة.
الموقف المصري: الأمن المائي خط أحمر
على الجانب الآخر، ترى القاهرة أن سد النهضة الإثيوبي يشكل تهديدًا مباشرًا لحصتها من مياه النيل، والتي يعتمد عليها أكثر من 100 مليون مصري كمصدر شبه وحيد للمياه العذبة. وتؤكد مصر أن الأمر لا يتعلق فقط بالكهرباء، بل بكيفية إدارة وملء وتشغيل السد، خصوصًا في فترات الجفاف الممتد.
الرئيس المصري شدد أكثر من مرة على أن الأمن المائي المصري “خط أحمر”، محذرًا من أن أي مساس بحصة مصر سيقابل بإجراءات حاسمة. كما لجأت القاهرة إلى خطوات دبلوماسية عدة، بينها اللجوء إلى مجلس الأمن، والانخراط في وساطات قادتها الولايات المتحدة، والبنك الدولي، والاتحاد الإفريقي، لكنها جميعًا لم تحقق اتفاقًا ملزمًا حتى الآن.
الموقف السوداني: بين المصالح والمخاوف
السودان يتبنى موقفًا متوازنًا، إذ يرى في السد فرصة للاستفادة من الكهرباء الرخيصة وتنظيم تدفقات النيل الأزرق، مما يقلل من مخاطر الفيضانات. لكنه في الوقت نفسه يخشى من المخاطر المرتبطة بالملء غير المنسق أو التشغيل الأحادي، والذي قد يهدد سلامة سدوده، مثل سد الروصيرص القريب جدًا من سد النهضة. لذلك، يطالب السودان، مثل مصر، باتفاق قانوني ملزم يحدد آليات الملء والتشغيل وتبادل البيانات.
الوساطات الدولية ومحاولات الحل
خلال السنوات الماضية، دخلت أطراف دولية عدة على خط الأزمة، منها:
- الولايات المتحدة والبنك الدولي: قادا مفاوضات عام 2019، لكنها توقفت بعد انسحاب إثيوبيا.
- الاتحاد الإفريقي: حاول رعاية جولات متكررة من المفاوضات منذ عام 2020، لكنها لم تسفر عن نتائج ملموسة.
- روسيا: أعربت عن استعدادها للتوسط، دون خطوات عملية مؤثرة.
رغم هذه الجهود، ظل الموقف الإثيوبي متمسكًا بمبدأ “الاستخدام المنصف والمعقول” لمياه النهر دون الاعتراف بالاتفاقيات القديمة، فيما تصر القاهرة والخرطوم على ضرورة وجود آلية قانونية تضمن حقوقهما.
البعد السياسي والإقليمي للأزمة

لم تعد قضية سد النهضة الإثيوبي مجرد خلاف فني حول المياه، بل تحولت إلى أزمة جيوسياسية تمس استقرار القرن الإفريقي بالكامل. فقد سعت مصر إلى تعزيز علاقاتها مع دول مجاورة لإثيوبيا مثل إريتريا والصومال، في خطوة اعتبرتها أديس أبابا تهديدًا لأمنها القومي.
كما أن فتح الباب أمام إمكانية بناء سدود أخرى في حوض النيل من جانب إثيوبيا يزيد من المخاوف الإقليمية، ويجعل مستقبل الصراع المائي أكثر تعقيدًا.
التحديات الفنية أمام سد النهضة
رغم افتتاح السد رسميًا، يواجه المشروع عدة تحديات تقنية:
- قدرة التوربينات: لم تُركب جميع التوربينات المخططة، ويعمل جزء منها فقط.
- نقل الكهرباء: تعاني إثيوبيا من ضعف في البنية التحتية لنقل الطاقة المنتجة إلى مختلف المناطق.
- الأمان المائي: هناك مخاوف من تأثير السد على سلامة السدود السودانية القريبة.
- التأثير البيئي: لم تُجرَ حتى الآن دراسات شاملة حول التأثيرات البيئية والاجتماعية للسد على دول المصب.
الخيارات المتاحة أمام مصر
في ظل استمرار الأزمة، تملك مصر عدة خيارات للتعامل مع الوضع، منها:
- العودة إلى مجلس الأمن لإعادة طرح القضية كتهديد للسلم والأمن الدوليين.
- طلب وساطة جديدة من الولايات المتحدة، خاصة أن واشنطن سبق وأبدت اهتمامًا كبيرًا بالقضية.
- تعزيز التعاون مع السودان لتوحيد الموقف التفاوضي.
- تصعيد دبلوماسي إقليمي عبر بناء تحالفات مع دول مؤثرة في القرن الإفريقي.
لكن تبقى كل هذه الخيارات مرتبطة بمدى استعداد إثيوبيا للجلوس على طاولة المفاوضات وقبول اتفاق ملزم.
مستقبل سد النهضة وأزمة مياه النيل
من الواضح أن أزمة سد النهضة الإثيوبي لن تنتهي بمجرد قص شريط الافتتاح الرسمي. فالمشكلة الحقيقية تكمن في غياب اتفاق شامل وملزم يضمن الحقوق المائية لمصر والسودان من جهة، ويمنح إثيوبيا حقها في التنمية من جهة أخرى.
إذا استمرت إثيوبيا (Ethiopia) في إدارة السد بشكل أحادي، فمن المتوقع أن تزداد التوترات السياسية وربما الأمنية في المنطقة. أما إذا تم التوصل إلى اتفاق عادل، فقد يتحول السد من مصدر صراع إلى فرصة للتعاون الإقليمي في مجالات الطاقة والمياه والتنمية.
“قد يهمك: تصريحات إلهام شاهين عن المجتمع المتسلفن“
سد النهضة الإثيوبي: الخاتمة
يظل سد النهضة الإثيوبي وأزمة مياه النيل من أخطر التحديات التي تواجه مصر والسودان في القرن الحادي والعشرين. فالملف لم يعد مجرد مشروع لتوليد الكهرباء، بل أصبح قضية حياة أو موت بالنسبة لدول المصب.
الحل يكمن في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم يوازن بين حق إثيوبيا في التنمية وحق مصر والسودان في الحياة. وحتى يتحقق ذلك، ستبقى الأزمة مفتوحة على جميع الاحتمالات، بين التصعيد السياسي والتوصل إلى تسوية تاريخية.