أخبار العالم

عملية السرب الأحمر: القصة السرية لأخطر فشل تجسس أمريكي في مواجهة كوريا الشمالية

في أعماق بحر اليابان، المعروف بلونه الأصفر الخادع، تُنسج قصص لا تخرج إلى النور إلا بصعوبة بالغة. بين أمواجه الهادئة تارة والعاصفة تارة أخرى، تتحرك أشباح من الفولاذ تحمل على متنها رجالًا لا تُعرف أسماؤهم، بل أرقامهم.

في ليلة شتوية باردة من عام 2019، انطلقت واحدة من أخطر مهام التجسس الأمريكية منذ الحرب الباردة، والتي حملت اسمًا رمزيًا “عملية السرب الأحمر”. كان هدفها جسر الهوة الاستخباراتية الهائلة بين واشنطن وبيونغ يانغ، وزرع جهاز تنصت فائق التطور قرب شريان الاتصالات الحساس الخاص بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.

لقد صادق البيت الأبيض على هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، مؤمنًا بأنها قد تغير قواعد اللعبة في شبه الجزيرة الكورية المضطربة. ولكن كما يخبرنا التاريخ، فإن البحر لا يرحم، والصدف العابرة قد تكون أشد فتكًا من الجيوش المدججة بالسلاح. فما كان يُفترض أن يبقى سرًا محكمًا، تحول إلى فشل مدوٍ لم يُكتب له أن يرى النور إلا بعد سنوات، تاركًا خلفه دماءً وأسئلة لا تزال عالقة.

هذه هي حكاية “عملية السرب الأحمر”، المهمة التي انتهت قبل أن تبدأ، وأثبتت أن التجسس لعبة لا تعرف النجاح المطلق ولا الفشل المطلق، بل تعرف فقط أسرارًا تدفنها الرمال أو تبتلعها أعماق البحار.


الجذور التاريخية: لماذا فكرت واشنطن بهذه العملية الجريئة؟

لم تكن “عملية السرب الأحمر” وليدة لحظة عابرة، بل كانت تتويجًا لعقود من التوتر والصراع الخفي بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.

شبه الجزيرة الكورية على صفيح ساخن

في عام 2018، كانت شبه الجزيرة الكورية على صفيح ساخن، حيث تصاعدت وتيرة التجارب الباليستية والنووية التي كانت تطلقها بيونغ يانغ متحديةً المجتمع الدولي. كان كيم جونغ أون يلوح بترسانته المتنامية، بينما رد دونالد ترامب بتهديدات “النار والغضب”.

ورغم لقاءات القمة التاريخية بين الزعيمين، والتي بدت وكأنها تفتح آفاقًا جديدة للسلام، إلا أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية كانت مقتنعة بأن كوريا الشمالية لم تتوقف عن بناء قدراتها العسكرية، بل واصلت تعزيزها في الخفاء.

شبكة الاتصالات السرية

لم تكن المشكلة مقتصرة على الصواريخ فقط؛ بل كانت تتجاوز ذلك إلى شبكة اتصالات سرية يعتقد أنها تربط كيم جونغ أون مباشرة بقادة جيشه وأجهزته الأمنية.

هذه الشبكة:

  • محصنة تحت الأرض.
  • بعيدة عن أعين الأقمار الصناعية.
  • منيعة حتى على أقوى الهجمات السيبرانية.

كانت واشنطن تواجه جدارًا من السرية يصعب اختراقه بالأساليب التقليدية. هنا برزت فكرة الحل الوحيد المتبقي: التسلل إلى أعماق البحر، والوصول إلى كابلات الاتصالات الرئيسة، وزرع جهاز قادر على اعتراض كل كلمة وإشارة.

كانت مغامرة بحجم حرب، مغامرة قد تشعل مواجهة نووية إذا انكشف أمرها، لكن البيت الأبيض، وبعد نقاشات مستفيضة، أعطى الضوء الأخضر، لتُسدل الستار على مرحلة جديدة من الصراع الخفي.


تاريخ طويل من الصراع في الظل: أمريكا وكوريا الشمالية

صراع أمريكا وكوريا الشمالية
صراع أمريكا وكوريا الشمالية

العداء بين واشنطن وبيونغ يانغ لم يكن يومًا مجرد مواجهة صواريخ وتصريحات نارية، بل كان صراعًا مستمرًا بين الجواسيس وأجهزة التنصت والعمليات السرية منذ الحرب الكورية في الخمسينيات.

محاولات واشنطن لاختراق أسرار بيونغ يانغ

سعت الولايات المتحدة على مدار عقود لاختراق أسرار النظام الكوري الشمالي:

  • استخدمت الأقمار الصناعية لالتقاط صور للجبال التي تخزن فيها الأسلحة.
  • حلقت طائرات التجسس على حدودها لترصد كل حركة.
  • اعتمدت في الثمانينيات والتسعينيات على المنشقين الذين هربوا حاملين أسرارًا حساسة.

رد كوريا الشمالية

لكن كوريا الشمالية لم تكن ساكنة؛ فقد دفعت هي الأخرى بجواسيسها إلى الجنوب، وزرعت عملاء حتى داخل اليابان، لتصنع شبكة مضادة قادرة على تضليل خصومها.

ومع ظهور الملف النووي، أصبحت اللعبة أكثر تعقيدًا. فمع كل تجربة تفجير أو إطلاق صاروخ، كانت واشنطن تبحث عن إجابة: كيف يدار هذا البرنامج؟ ومن يملك القرار النهائي؟

على مدار عقود، بقيت الإجابات ناقصة، حتى أن أكثر عمليات التجسس تقدمًا لم تتمكن من اختراق الدائرة المقربة من كيم جونغ أون.

ولهذا، اعتبرت “عملية السرب الأحمر” لحظة فارقة، ومحاولة لفتح نافذة طال انتظارها في جدار من السرية صمد لأكثر من نصف قرن.

لكن التاريخ يعيد نفسه، فكما فشلت محاولات سابقة، انتهت هذه المحاولة أيضًا إلى لا شيء، مؤكدة أن الصراع بين واشنطن وبيونغ يانغ هو قبل كل شيء معركة عقول وظلال، لا تقل خطرًا عن معركة السلاح.


السرب الأحمر: فرقة النخبة المستعدة للمستحيل

للقيام بمهمة بهذه الخطورة، لم يكن بالإمكان تكليف أي وحدة عسكرية عادية. هنا ظهر اسم “السرب الأحمر”، وهي فرقة تنتمي إلى وحدة مشهورة بالسرية المطلقة، ويعتقد أنها إشارة إلى “سيل تيم سيكس” (SEAL Team Six) الشهيرة.

خلفية السرب الأحمر

  • في الثمانينيات، اختار الأمريكيون هذا الاسم ليربكوا السوفييت في الحرب الباردة.
  • كان هناك العديد من الأسراب الوهمية التي تخفيها واشنطن كجزء من حرب المعلومات.
  • نفذت هذه الوحدة عمليات كبرى، من قتل أسامة بن لادن إلى مهام سرية في العراق وأفغانستان واليمن.

تدريبات على المستحيل

خضع رجال “السرب الأحمر” لتدريبات قاسية:

  • محاكاة لمياه البحر الأصفر الباردة.
  • غوص في ظلام مطبق.
  • اختبارات نفسية لمواجهة لحظة الموت.

لقد استعد “السرب الأحمر” لكل شيء، لكن لم يخطر ببال أحد أن الخطر لن يأتي من جيش كيم المدجج بالسلاح، بل من صدفة عابرة ستغير مسار كل شيء وتكتب النهاية المحتومة لهذه المهمة الطموحة.


الخطة المحكمة والجهاز السري الفائق الحساسية

في أروقة البنتاغون، رُسمت الخطط بعناية فائقة. خرائط مفصلة لشواطئ كوريا الشمالية، تحديد مواقع الرادارات والألغام البحرية ونقاط المراقبة التي لا تنام. كان المطلوب عملية نظيفة، لا تترك أثرًا ولا بصمة، حتى لو فشلت، يجب أن تختفي وكأنها لم تكن.

اختيار الفريق:

  • تم انتقاء 12 رجلًا من “السرب الأحمر”.
  • كانوا الأكثر خبرة في الغوص القتالي.
  • الأكثر صبرًا على الصمت المميت.

خضعوا لتدريبات سرية في منشآت معزولة، وفي مياه متجمدة تحاكي البحر الأصفر. استخدموا غواصات صغيرة تطلق من أعماق المحيط، وأمضوا ساعات طويلة من المناورة في ظلام دامس لا يرى فيه المرء كف يده.

الجهاز السري المتطور

بحسب تسريبات نشرتها “نيويورك تايمز”، كان الهدف من العملية زرع جهاز تنصت متطور قرب كابلات بحرية رئيسة.

خصائص الجهاز:

  • نظام فائق الحساسية قادر على اعتراض المكالمات المشفرة والبيانات الرقمية.
  • يبث المعلومات عبر قنوات سرية مشفرة إلى القيادة الأمريكية.
  • صُمم داخل وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA) بالتعاون مع شركات دفاعية كبرى.
  • اختُبر في بيئات قاسية: ضغط عالٍ، مياه باردة، تيارات قوية.
  • قادر على العمل لسنوات دون صيانة بشرية.

لكن القدر كان له رأي آخر، وظل الجهاز حبيس الحقيبة، لأن المهمة لم تصل قط إلى لحظة الزرع الحاسمة.


ليلة القدر الكارثية: عندما تتدخل الصدفة

بدأت المهمة في ليلة باردة من شتاء عام 2019. غواصة أمريكية نووية انزلقت في صمت تحت سطح البحر الأصفر، تحمل في بطنها رجال “السرب الأحمر”.

تفاصيل النزول إلى البحر

  • عقارب الساعة تقترب من منتصف الليل.
  • صدر الأمر بفتح الباب المائي للغواصة.
  • خرج زورقان صغيران في الظلام.
  • ارتدى الجنود بدلات غوص حرارية وأجهزة تنفس مغلقة تمنع حتى فقاعات الهواء.

تحركوا ببطء، في صمت مطبق لا يقطعه سوى خفقان قلوبهم. المسافة بضعة كيلومترات، لكنها بدت كرحلة لا تنتهي. الهدف: الوصول إلى موقع الكابل البحري لزرع الجهاز والانسحاب قبل بزوغ الفجر.

المفاجأة غير المتوقعة

في واشنطن، تابع المراقبون التقارير المتقطعة. بدا أن كل شيء يسير كما خُطط له، حتى ظهرت ومضات خافتة من الضوء في الأفق.

لم تكن سفينة حربية أو دورية بحرية، بل قارب صيد مدني. صيادون كوريون شماليون خرجوا يبحثون عن رزقهم ليجدوا أنفسهم وجهًا لوجه مع أخطر فرقة في البحرية الأمريكية.

  • تجمد الجنود في أماكنهم.
  • التراجع يعني الفشل.
  • المواجهة قد تكشف كل شيء.

سلط أحد الصيادين ضوءًا يتيمًا على سطح الماء، لمح حركة غريبة، ثم صرخ لرفاقه. في لحظة، تحولت العملية من سرية مطلقة إلى فوضى عارمة.

  • طلقات كاتمة للصوت اخترقت الظلام.
  • صيحات استغاثة ارتفعت في البحر البارد.
  • توقف القارب وسقط رجال في المياه.

انهارت الخطة كلها قبل أن تُنفذ.


التداعيات السياسية والخسائر البشرية: ما بعد الفشل

في تلك اللحظة، أدرك قادة “السرب الأحمر” الحقيقة المريرة: الجهاز لن يُزرع، والعملية انتهت. انسحاب مرتبك تحت جنح الليل، وزوارق صغيرة تعود مسرعة نحو الغواصة، وبحر أصفر ترك خلفه دماء لم تكن في الحسبان.

في واشنطن

  • الغواصة عادت برجالها لكن بلا نصر.
  • الجهاز لم يُزرع.
  • الهدف لم يتحقق.
  • سالت دماء مدنيين أبرياء.

خيم الصمت على البيت الأبيض. تحدثت التقارير عن “فشل غير متوقع” لكنها تجنبت ذكر التفاصيل المروعة. الكونغرس لم يُبلغ فورًا، وحاول البنتاغون احتواء الفضيحة قبل أن تخرج للعلن.

في كوريا الشمالية

لم تُعلن بيونغ يانغ شيئًا بشكل مباشر. لكن وسائل إعلامها تحدثت عن:

  • تحركات مشبوهة في البحر.
  • قوارب صيد لم تعد إلى الميناء.

ربما غياب الأدلة أو قرار استراتيجي هو ما جعل كوريا الشمالية تحتفظ بالقصة كورقة ضغط مستقبلية.

ومع عودة ترامب إلى السلطة، تسربت تفاصيل العملية إلى الصحافة الأمريكية، لكنها ظلت ملفًا حساسًا وسريًا في التحقيقات الرسمية.

“تعرف على: الضربة الإسرائيلية على قطر


دروس من الفشل: الأسئلة التي بقيت عالقة

في الداخل الأمريكي، تحولت “عملية السرب الأحمر” إلى مادة للنقاش الحاد.

الاتهامات السياسية

  • رأى خصوم ترامب أنها مغامرة غير محسوبة.
  • اتُهم البيت الأبيض بتنفيذها بعيدًا عن أعين المؤسسات.
  • تساءل البعض: هل كان الهدف إنجازًا سياسيًا شخصيًا؟

الرواية الكورية الشمالية

النظام الكوري الشمالي استخدم الحادثة لتأكيد روايته بأن الأمريكيين لا يعرفون سوى لغة العدوان. حتى من دون إعلان رسمي، ظل كيم يحتفظ بالقصة كورقة تفاوضية مستقبلية.

مأساة الصيادين

قضية الصيادين الذين قتلوا بقيت جرحًا مفتوحًا. منظمات حقوقية أثارتها بحدة، وطرحت سؤالًا:

  • إلى أي مدى يمكن أن تبرر السرية العسكرية قتل أبرياء؟

الإعلام الأمريكي انقسم:

  • بعض الصحف كشفت التفاصيل مثل “نيويورك تايمز”.
  • قنوات أخرى تجاهلت القصة خشية المساس بصورة القوات الخاصة الأمريكية.

وفي زمن التسريبات، لا سر يدوم.

عملية السرب الأحمر في كوريا الشمالية
عملية السرب الأحمر في كوريا الشمالية

“اطلع على: تسريبات وول ستريت جورنال عن ضربة إسرائيل لقطر


الخاتمة: حدود القوة وعبر التاريخ

“عملية السرب الأحمر” هو اسم دخل التاريخ لا كإنجاز، بل كإخفاق يطارد ذاكرة القوات الخاصة الأمريكية.

  • لم يوضع جهاز.
  • لم تُجمع معلومات.
  • أزهقت أرواح مدنيين في لحظة عابرة.

الأسئلة التي تركتها العملية أكبر من الإجابات:

  • هل كان ترامب يبحث عن نصر استخباراتي بأي ثمن؟
  • هل بالغ البنتاغون في ثقته بقوة “السرب الأحمر”؟
  • أم أن قدر العمليات السرية أن تنهار أمام أبسط الصدف البشرية؟

المؤكد أن كوريا الشمالية خرجت بصورة المنتصر الصامت، فيما حملت الولايات المتحدة جرحًا أخلاقيًا وسياسيًا. إنها حكاية تذكرنا أن الحروب لا تحسم دائمًا بالسلاح، وأن التفوق التكنولوجي لا يلغي عنصر المفاجأة البشرية أو تدخل القدر.

وفي لعبة التجسس الكبرى بين واشنطن وبيونغ يانغ، قد يكون الفشل أحيانًا أخطر من النجاح. هكذا انتهت “عملية السرب الأحمر”، المهمة التي كان يفترض أن تبقى سرًا أبديًا، لكنها تحولت إلى درس علني في حدود القوة وعواقب التهور، مؤكدة أن أكثر الخطط إحكامًا قد تتبدد أمام ومضة ضوء من قارب صيد، لتكشف عورة التجسس وتترك وراءها تساؤلات بلا إجابات واضحة.

زر الذهاب إلى الأعلى